سورة البقرة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


ولما كان حصول المعصية منهم بعد رؤية هذه الخارقة مستبعد التصور فضلاً عن الوقوع أشار إليه بقوله: {ثم قست} من القسوة وهي اشتداد التصلب والتحجر {قلوبكم} ولما كانت لهم حالات يطيعون فيها أتى بالجار فقال {من بعد ذلك} أي من بعدما تقدم وصفه من الخوارق في المراجعات وغيرها تذكيراً لهم بطول إمهاله لهم سبحانه مع توالي كفرهم وعنادهم، وتحذيراً من مثل ما أحل بأهل السبت {فهي} أي فتسبب عن قسوتها أن كانت {كالحجارة} التي هي أبعد الأشياء عن حالها، فإن القلب أحيى حيّ والحجر أجمد جامد، ولم يشبهها بالحديد لما فيه من المنافع، ولأنه قد يلين.
ولما كانت القلوب بالنظر إلى حياتها ألين لين وبالنظر إلى ثباتها على حالة أصلب شيء كانت بحيث تحير الناظر في أمرها فقال {أو} قال الحرالي: هي كلمة تدل على بَهم الأمر وخفيته فيقع الإبهام والإيهام- انتهى. وهذا الإبهام بالنسبة إلى الرائين لهم من الآدميين، وأما الله تعالى فهو العالم بكل شيء قبل خلقه كعلمه به بعد خلقه وزاد أشد مع صحة بناء أفعل من قسى للدلالة على فرط القسوة فقال {أشد قسوة} لأنها لا تلين لما حقه أن يلينها والحجر يلين لما حقه أن يلينه وكل وصف للحي يشابه به ما دونه أقبح فيه مما دونه من حيث إن الحي مهيأ لضد تلك المشابهة بالإدراك.
ولما كان التقدير فإن الحجارة تنفعل بالمزاولة عطف عليه مشيراً إلى مزيد قسوتهم وجلافتهم بالتأكيد قوله: {وإن من الحجارة} وزاد في التأكيد تأكيداً لذلك قوله: {لما يتفجر} أي يتفتح بالسعة والكثرة {منه الأنهار} ذكر الكثير من ذلك وتذكيراً بالحجر المتفجر لهم منه الأنهار بضرب العصا ثم عطف على ذلك ما هو دونه فقال: {وإن منها لما يشقق} أي يسيراً بتكلف بما يشير إليه الإدغام والتفعل من التشقق وهو تفعل صيغة التكلف من الشق وهو مصير الشيء في الشقين أي ناحيتين متقابلتين- قاله الحرالي. {فيخرج منه الماء} الذي هو دون النهر، ثم عطف على هذا ما هو أنزل من ذلك فقال: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} أي ينتقل من مكانه من أعلى الجبل إلى أسفله لأمر الملك الأعلى له بذلك وقلوبكم لانتقاد لشيء من الأوامر فجعل الأمر في حق القلوب لما فيها من العقل كالإرادة في حق الحجارة لما لها من الجمادية وفي ذلك تذكير لهم بالحجارة المتهافتة من الطور عند تجلي الرب. قال الحرالي: والخشية وجل نفس العالم مما يستعظمه.
ولما كان التقدير: فما أعمالكم- أو: فما أعمالهم، على قراءة الغيب- مما يرضي الله؟ عطف عليه {وما} ويجوز أن يكون حالاً من قلوبكم أي قست والحال أنه ما {الله} أي الذي له الكمال كله {بغافل} والغفلة فقد الشعور بما حقه أن يشعر به {عما تعملون} فانتظروا عذاباً مثل عذاب أصحاب السبت إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولم أر ذكر قصة البقرة في التوراة فلعله مما أخفوه لبعض نجاساتهم كما أشير إليه بقوله تعالى:
{تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} [الأنعام: 91] والذي رأيت فيها مما يشبه ذلك ويمكن أن يكون مسبباً عنه أنه قال في السفر الخامس منها ما نصه: فإذا وجدتم قتيلاً في الأرض التي يعطيكم الله ربكم مطروحاً لا يعرف قاتله يخرج أشياخكم وقضاتكم ويذرعون ما بين القتيل والقرية، فأية قرية كانت قريبة من القتيل يأخذ أشياخ تلك القرية عجلاً لم يعمل به عمل ولم يحرث به حرث، فينزل أشياخ تلك القرية العجل إلى الوادي الذي لم يزرع ولم يحرث فيه حرث يذبحون العجل في ذلك الوادي ويتقدم الأحبار بنو لاوى الذين اختارهم الله ربكم أن يخدموا ويباركوا اسم الرب وعن قولهم يقضي كل قضاء ويضرب كل مضروب، وجميع أشياخ تلك القرية القريبة من القتيل يغسلون أيديهم فوق العجل المذبوح في الوادي ويحلفون ويقولون: ما سفكت أيدينا هذا الدم وما رأينا من قتله فاغفر يا رب لآل إسرائيل شعبك الذين خلصت، ولا تؤاخذ شعبك بالدم الزكي، ويغفر لهم على الدم وأنتم فافحصوا عن الدم واقضوا بالحق وأبعدوا عنكم الإثم واعملوا الحسنات بين يدي الله ربّكم- انتهى. وهو كما ترى يشبه أن يكون فرع هذا الأصل المذكور في القرآن العظيم والله أعلم.
ولما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع بحيث إنها أشد قسوة من الحجارة تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم والتبكيت لهم منكراً للطمع في إيمانهم بعد ما قرر أنه تكرر من كفرانهم فقال: {أفتطمعون} والطمع تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب له {أن يؤمنوا} أي هؤلاء الذين بين أظهركم وقد سمعتم ما اتفق لأسلافهم من الكثافة وهم راضون بذلك وإلا لآمنوا بمجرد هذا الإخبار عن هذه القصص من هذا النبي الأمي الذي يحصل التحقيق بأنه لا معلم له بها إلاّ الله معترفين {لكم وقد} أي والحال أنه قد {كان فريق} أي ناس يقصدون الفرقة والشتات {منهم} قال الحرالي: من الفرق وهو اختصاص برأي وجهة عمن حقه أن يتصل به ويكون معه- انتهى. و{يسمعون كلام الله} المستحق لجميع صفات الكمال والكلام قال الحرالي: هو إظهار ما في الباطن على الظاهر لمن يشهد ذلك الظاهر بكل نحو من أنحاء الإظهار- انتهى.
{ثم يحرفونه} أي يزيلونه عن وجهه برده على حرفه، وفي ذكر الفريق مع المعطوفات عليه تأكيد لعظيم تهمّكهم في العصيان بأنهم كانوا بعد ما وصف من أحوالهم الخبيثة فرقاً في الكفر والعدوان والتبرء من جلباب الحياء، وقوله: {من بعد ما عقلوه} مع كونه توطية لما يأتي من أمر الفسخ مشيراً إلى أن تحريفهم لم يكن في محل إشكال لكونه مدركاً بالبديهة، وأثبت الجار لاختلاف أحوالهم.
ولما كان هذا مع أنه إشارة إلى أنهم على جبلات إبائهم وإلى أن من اجترأ على الله لم ينبغ لعباد الله أن يطمعوا في صلاحه لهم، لأنه إذا اجترأ على العالم بالخفيات كان على غيره أجرأ مشيراً إلى أنه لا يفعله عاقل ختمه بقوله: {وهم يعلمون} أي والحال أنهم مع العقل حاملون للعلم فاهمون له غير غافلين بل متعمدون.
ولما كان الكلام مرشداً إلى أن التقدير فهم لجرأتهم على الله إذا سمعوا كتابكم حرفوه وإذا حدثوا عباد الله لا يكادون يصدقون عطف عليه قوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا} بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا} نفاقاً منهم {آمنا وإذا خلا بعضهم} أي المنافقين {إلى بعض قالوا} لائمين لهم ظنّاً منهم جهلاً بالله لما وجدوا كثيراً من أسرارهم وخفي أخبارهم مما هو في كتابهم من الدقائق وغير ذلك عند المؤمنين مع اجتهاده في إخفائها أن بعضهم أفشاها فعلمت من قبله {أتحدثونهم} من التحديث وهو تكرار حدث القول أي واقعه {بما فتح الله} ذو الجلال والجمال {عليكم} من العلم القديم الذي أتاكم على ألسنة رسلكم أو بما عذب به بعضكم. والفتح قال الحرالي توسعة الضيق حساً ومعنى {ليحاجوكم} أي المؤمنون {به عند ربكم} والمحاجة تثبيت القصد والرأي بما يصححه. ولما كان عندهم أن إفشاءهم لمثل هذا من فعل من لا يفعل قالوا إنكاراً من بعضهم على بعض {أفلا تعقلون} ويمكن أن يكون خطاباً للمؤمنين المخاطبين يتطمعون، أي أفلا يكون لكم عقل ليردكم ذلك عن تعليق الأمل بإيمانهم. ولما كان ظنهم هذا أقبح الفساد لأنه لو لم يكن علمه من قبل الله لم يقدر غيره أن يعبر عنه بعبارة تعجز الخلائق عن مماثلتها وصل به قوله موبخاً لهم {أولا} أي ألا يعلمون أن علم المؤمنين لذلك لم يكن إلا عن الله لما قام عليه من دليل الإعجاز أو لا {يعلمون أن الله} الذي له الإحاطة بكل شيء {يعلم ما يسرون} أي يخفون من قولهم لأصحابهم ومن غيره {وما يعلنون} أي يظهرون من ذلك فيخبر به أولياءه.
ولما ذكر سبحانه هذا الفريق الذي هو من أعلاهم كفراً وأعتاهم أمراً عطف عليه قسماً أعتى منه وأفظ لأن العالم يرجى لفته عن رأيه أو تخجيله بالحجاج بخلاف المقلد العاتي الكثيف الجافي فقال {ومنهم أميون} ويجوز أن يراد بهم من لا يحسن الكتابة ومن يحسنها وهو غليظ الطبع بعيد عن الفهم، لأن الأمي في اللغة من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتابة وهو باق على جبلته وحال ولادته والغبي الجلف الجافي القليل الكلام، فالمعنى أنهم قسمان: كتبة وغير كتبة، وهم المراد بالأميين، وهؤلاء مع كونهم لا يحسنون الكتاب يجوز أن يتعلموا القراءة تلقيناً ولا يفهمون المعاني، ويجوز أن يكون المعنى أنهم قسمان: علماء نحارير عارفون بالمعاني وجهلة غبيون لا حظ لهم من التوراة إلا القراءة الخالية عن التدبر المقرونة بالتمني ولذلك قال: {لا يعلمون الكتاب} أي بخلاف القسم الذي أكد فيه كونهم من أهل العلم.
ولما كان المراد سلب العلم عنهم رأساً أبرز الاستثناء مع كونه منقطعاً في صورة المتصل فقال: {إلاّ أماني} جمع أمنية، وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل، ويقال إن معناه يجري في التلاوة للفظ كأنها تقدير بالإضافة لمن يتحقق له المعنى- قاله الحرالي. أي إن كانت الأماني مما يصح وصفه بالعلم فهي لهم لا غيرها من جميع أنواعه. ولما أفهم ذلك أن التقدير ما هم ألا يقدرون تقديرات لا علم لهم بها عطف عليه قوله: {وإن هم إلا يظنون} تأكيداً لنفي العلم عنهم. ولما أثبت لهذا الفريق القطع على الله بما لا علم لهم به وكان هذا معلوم الذم محتوم الإثم سبب عنه الذم والإثم بطريق الأولى لفريق هو أردؤهم وأضرهم لعباد الله وأعداهم فقال: {فويل} والويل جماع الشر كله- قاله الحرالي. {للذين يكتبون} أي منهم ومن غيرهم {الكتاب} أي الذي يعلمون أنه من عندهم لا من عند الله {بأيديهم} وأشار إلى قبح هذا الكذب وبعّدَ رتبته في الخبث بأداة التراخي فقال {ثم يقولون} لما كتبوه كذباً وبهتاناً {وهذا من عند الله} الملك الأعظم ثم بين بالعلة الحاملة لهم على ذلك خساستهم وتراميهم إلى النجاسة ودناءتهم فقال: {ليشتروا به} أي بهذا الكذب الذي صنعوه {ثمناً قليلاً} ثم سبب عنه قوله: {فويل لهم مما كتبت أيديهم} من ذلك الكذب على الله {وويل لهم مما يكسبون} أي يجدون كسبه مما اشتروه به، وجرد الفعل لوضوح دلالته على الخبث بقرينة ما تقدم وإذا كان المجرد كذلك كان غيره أولى قال الحرالي: والكسب ما يجري من الفعل والقول والعمل والآثار على إحساس بمنة فيه وقوة عليه- انتهى. وفي هذه الآية بيان لما شرف به كتابنا من أنه لإعجازه لا يقدر أحد أن يأتي من عنده بما يدسه فيه فيلبس به- فللّه المنّة علينا والفضل.
ولما أرشد الكلام إلى أن التقدير: فحرفوا كثيراً في كتاب الله وزادوا ونقصوا، عطف عليه ما بين به جرأتهم وجفاهم وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من الجرائم التي هم أعلم الناس بأن بعضها موجب للخلود في النار فقال تعالى: {وقالوا لن تمسّنا} من المس وهو ملاقاة ظاهر الشيء ظاهر غيره {النار} أي المعدة في الآخرة {إلا أياماً} ولما كان مرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها وكان جمع القلة وإن كان يدل على ذلك لكنه ربما استعير للكثرة فدل على ما لا آخر له أو ما يعسر عده زادوا المعنى تأكيداً وتصريحاً بقولهم: {معدودة} أي منقضية، لأن كل معدود منقض. قال الحرالي: والعدّ اعتبار الكثرة بعضها ببعض، واقتصر على الوصف بالمفرد لكفايته في هذا المعنى بخلاف ما في آل عمران.
ولما ادعوا ذلك ادعوا أن المسلمين يخلفونهم بعد ذلك فيها، روى البخاري في الجزية والمغازي والطب والدارمي في أول المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان ههنا من يهود، فجمعوا له فقال: إن سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا: نعم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان، فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت وبررت، قال: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسؤوا فيها! والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك» ولما ادعوا ذلك كان كأنه قيل: فيما ذا نرد عليهم؟ فقال {قل} منكراً لقولهم {اتخذتم} في ذلك {عند الله} أي الذي له الأمر كله {عهداً فلن} أي فيتسبب عن ذلك أنه يوفي بعهده، لأنه {يخلف الله} الذي له صفات الكمال {عهده أم} لم يكن ذلك فأنتم {تقولون على الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما لا تعلمون} ومعنى الإنكار في الاستفهام أنه ليس واحد من الأمرين واقعاً، لا اتخذتم عهداً ولا قلتم ذلك جهلاً، بل قلتموه وأنتم تعلمون خلافه، ولما انتفى الأمران علم أن الكائن غير ما ادعوه فصرح به في قوله: {بلى} أي لتمسنكم على خلاف ما زعمتموه، فإنّ بلى كلمة تدل على تقرير يفهم من إضراب عن نفي كأنها بل وصلت بها الألف إثباتاً لما أضرب عن نفيه- قاله الحرالي.
ونعم جواب لكلام لا جحد فيه. ولما أضرب سبحانه عما قالوه من القضاء في الأعيان قاضياً عليهم بالخسران علل ذلك بوصف هم به متلبسون معلماً بأن من حق الجاهل بالغيب الحكم على الأوصاف التي ناط علام الغيوب بها الأحكام فقال: {من كسب سيئة} أي عملاً من حقه أن يسوء {وأحاطت به خطيئة} بحيث لم يكن شيء من أحواله خارجاً عن الخطيئة بل كانت غامرة لكل ما سواها من أعماله، ولا يكون ذلك إلاّ للكفر الهادم لأساس الأعمال الذي لا يتأتى بقاء الأعمال بدونه. ولما كان إفراد الضمير أنصّ على جزاء كل فرد والحكم بالنكال على الكل أنكأ وأروع وأقبح وأفظع وأدل على القدرة أفرد ثم جمع فقال آتياً بالفاء دليلاً أن أعمالهم سبب دخولهم النار: {فأولئك} أي البعداء البغضاء {أصحاب النار هم} خاصة {فيها خالدون}.
ولما بان بهذا مالهم ولكل من شاركهم في هذا الوصف عطف عليه ما لمن ادّعوا أنهم يخلفونهم في النار ولكل من شاركهم في وصفهم الذي استحقوا به ذلك فقال: {والذين آمنوا} أي أقروا بالوحدانية بألسنتهم {وعملوا الصالحات} بياناً لأن قلوبهم مطمئنة بذلك {أولئك} العالو المراتب الشريفو المناقب، ولم يأت بالفاء دلالة على أن سبب سعادتهم إنما هو الرحمة {أصحاب الجنة} لا غيرهم {وهم} أي خاصة {فيها خالدون}.


ثم شرع سبحانه يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال: {وإذ} أي اذكروا ما تعلمون في كتابكم من حال من كسب سيئة محيطة واذكروا إذ {أخذنا} بما لنا من تلك العظمة التي أشهدناكم كثيراً منها ميثاقكم ولكنه أظهر لطول الفصل بذكر وصف يعمهم وغيرهم فقال: {ميثاق بني إسرائيل} ويجوز أن يكون معطوفاً على {نعمتي} في قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} لأن الكل في مخاطبتهم وبيان أمورهم.
ولما كان الدين إنما هو الأدب مع الخالق والخلق ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتباً له على الأحق فالأحق فقال ذاكراً له في صيغة الخبر مريداً به النهي والأمر وهو أبلغ من حيث إنه كأنه وقع امتثاله ومضى ودل على إرادة ذلك بعطف {وقولوا} عليه: {لا تعبدون إلا الله} المنعم الأول الذي له الأمر كله لتكونوا محسنين بذلك إحساناً هو الإحسان كله {و} أحسنوا أو تحسنون {بالوالدين} ولو كانا كافرين. قال الحرالي: تثنية والد من الولادة لاستبقاء ما يتوقع ذهابه بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه- انتهى {إحساناً} عظيماً لا يبلغ كنهه، لكونهما في الرتبة الثانية لجعلهما سبحانه السبب في نعمة الإيجاد الأول والمباشرين للتربية، وغيّر السياق فلم يقل: ولا تحسنون إلا إلى الوالدين، إفهاماً لأن الإحسان إليهما يشركهما فيه من بعدهما، لو جبر فوات هذا الحصر بتقديمهما إيذاناً بالاهتمام {وذي القربى} وهم المتوسلون بالوالدين لما لهم من أكيد الوصلة {واليتامى} لضعفهم، واليُتم قال الحرالي: فقد الأب حين الحاجة، ولذلك أثبته مثبت في الذكر إلى البلوغ، وفي البنت إلى الثيوبة لبقاء حاجتها بعد البلوغ، والقربى فعلى من القرابة وهو قرب في النسب الظاهر أو الباطن- انتهى {المساكين} لكسرهم.
ولما لم يكن وسع الناس عامة بالإحسان بالفعل ممكناً أمر بجعل ذلك بالقول فقال عطفاً على الخبر الذي معناه الإنشاء: {وقولوا للناس} عامة {حسناً} أي حَسَناً بالتحريك وهو لغة فيه كالبُخْل والبَخَل، وذلك بأن يأمروهم بما أمر الله به وينهوهم عما نهى عنه. ولما أمرهم بما إن امتثلوه اجتمعت كلمتهم ذكر أعظم جامع على الله من الأعمال فقال: {وأقيموا الصلاة} ثم ذكر ما به تمام الجمع ودوامه فقال: {وآتوا الزكاة} ولما كان الإعراض عن هذه المحاسن في غاية البعد فكيف إذا كانت بعهد فكيف إذا كان من الله أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال: {ثم توليتم} أي عن ذلك أو عن كثير منه، وأشار بصيغة التفعل إلى أن الأمور الدينية لحسنها لا يعرض عنها إلا بعلاج بين الفطرة الأولى والأمارة {إلا قليلاً منكم وأنتم} أي والحال أنكم {معرضون} عادتكم ذلك، لم يكن ذلك منكم عن غير علم، والإعراض صرف الشيء إلى العُرض التي هي الناحية.
قال السمين: وروى عن أبي عمرو وغيره: إلا قليل- بالرفع، وفيه أقوال، أصحها رفعه على الصفة بتأويل إلا وما بعدها بمعنى غير- انتهى. ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا الإعراب عند قوله: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} [البقرة: 249] ذكر ما يشهد لذلك من التوراة، قال في السفر الثاني منها لما ذكر أمر المناجاة وحضورهم عند الجبل وقال الله جميع هذه الآيات كلها: أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكون لك آلهة غيري، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب، إلهك إله غيور، أجازي الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة من أعدائي، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي، لا تقسم بالرب إلهك كذباً، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذباً. أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور، لا تتمن بنت صاحبك، ولا تشتهين امرأة صاحبك ولا كل شيء لصاحبك- وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح. وقال في موضع آخر من السفر الثالث: لا تسرقوا، ولا تغدروا، ولا تحلفوا باسمي كذباً، ولا تنجسوا اسم الرب إلهكم، أنا الرب وليس غيري، لا تظلمن صاحبك، ولا تشتمن الأخرس، ولا تضع عثرة بين يدي الضرير، اتق الله ربك، لا تحيفوا في القضاء، ولا تأثموا، ولا تحابين المسكين ولا تحاب الكبير أيضاً بل أقض بالبر والعدل، لا تبغض أخاك في قلبك بل بكّت صاحبك ووبخه بالحق لكيلا يلزمك خطيئة في سببه، ولا تحقدن على أحد بل أحبب صاحبك كما تحب نفسك، ولا تتطيروا بسنح الطير، ولا يكونن فيكم عراف، ولا تُطوّلن شعر رؤوسكم، ولا تحلقوا عنافق لحاكم، ولا تخدشوا وجوهكم على الميت، ولا تكتبوا على لحومكم بالإبر، أنا الله ربكم، لا تتبعوا العرّافين والقافة ولا تنطلقوا إليهم ولا تسألوهم عن شيء لئلا تتنجسوا بهم، أكرم الشيخ وقم إليه إذا رأيته، وأكرم من هو أكبر منك، واتق الله ربك، أنا الله ربكم، وإذا سكن بينكم الذي يقبل إليّ فلا تظلموه بل أنزلوه منزلة أحدكم وصيروه منكم، الذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم أحبوهم كما تحبون أنفسكم لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، أنا الله ربكم، لا تأثموا في القضاء ولا تأثموا في الأوزان والمكاييل بل اتخذوا ميزان الحق واتخذوا مكاييل الحق، أنا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر احفظوا جميع وصاياي وأحكامي بها، أنا الرب وليس غيري.
وقال في الثاني: ومن تبع العرافين والقافة وضل بهم أنزل به غضبي الشديد وأهلكه من شعبي، وأي رجل شتم والديه يقتل قتلاً ودمه في عنقه؛ ثم قال بعده: وأي رجل أو امرأة صار عرافاً أو منجماً يقتلان قتلاً، ويكون قتلهما الرجم بالحجارة، ودمهما في أعناقهما؛ وقال قبل ذلك: وكل من ضرب رجلاً فمات فليقتل قتلاً، ومن ضرب أباه وأمه فليقتل قتلاً، ومن سرق إنساناً فوجد معه يريد بيعه فليقتل قتلاً، ومن شتم أباه وأمه فليقتل قتلاً، ثم قال: لا يؤذّن الساكن بينكم ولا تعقّوهم تحوّجوهم، لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، ولا تؤذوا الأرامل والأيتام، فإن آذيتموهم فصلوا بين يدي أسمع صلاتهم وأستجيب لهم فيشتد غضبي وأقتلكم في الحرب وتكون نساؤكم أرامل وبنوكم يصيرون يتامى، وإن أسلفت رزقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم، ولا تأخذن منه رباً؛ ثم قال: ولا تقبلن الرشوة، فإن الرشوة تعمي أبصار الحكماء في القضاء وترد فلج الصالحين.
ولما كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل تلاه بالتذكير بما أخذ عليهم فيه من العهد، وقرن به الإخراج من الديار لأن المال عديل الروح والمنزل أعظم المال وهو للجسد كالجسد للروح فقال: {وإذ أخذنا ميثاقكم} يا بني إسرائيل {لا تسفكون دماءكم} أي لا يسفك بعضكم دماء بعض {ولا تخرجون أنفسكم} بإخراج بعضكم لبعض لأن المتواصلين بنسب أو دين كالنفس الواحدة {من دياركم}، قال الحرالي: وأصلها ما أدارته العرب من البيوت كالحلقة استحفاظاً لما تحويه من أموالها- انتهى.
ولما كانوا قد نكصوا عند حقوقِ الأمر فلم يقبلوا ما أتاهم من الخير حتى خافوا الدمار بسقوط الطور عليهم أشار إلى ذلك بقوله: {ثم أقررتم} أي بذلك كله بعد ليّ وتوقف، والإقرار إظهار الالتزام بما خفي أمره- قاله الحرالي: {وأنتم تشهدون} بلزومه وتعاينون تلك الآيات الكبار الملجئة لكم إلى ذلك، وقد مضى مما يصدق هذا عن التوراة آنفاً ما فيه كفاية للموفق، وسيأتي في المائدة بقيته، إن شاء الله تعالى. ولما كان هذا بما أكد به من ذكر الميثاق في مظهر العظمة وإضافة الجناية إلى نفس الجاني جديراً بالبعد منه أشار إلى ذلك بقوله: {ثم أنتم هؤلاء} الحقيرون المقدور عليهم المجهولون الذين لا يعرف لهم اسم ينادون به، أو الموجودون الآن؛ ثم استأنف البيان عن هذه الجملة فقال: {تقتلون أنفسكم} من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق {وتخرجون فريقاً منكم} أي ناساً هم أشقّاء لكم فهم جديرون منكم بالإحسان لا بالإخراج {من ديارهم}.
ولما كان من المستبعد جداً بعد الاستبعاد الأول أن يقعوا في ذلك على طريق العدوان استأنف البيان لذلك بقوله: {تظاهرون} أي تتعاونون، من التظاهر، وهو تكلف المظاهرة وهي تساند القوة كأنه استناد ظهر إلى ظهر- قاله الحرالي: {عليهم بالإثم} أي مصاحبين للإثم وهو أسوأ الاعتداء في قول أو فعل أو حال، ويقال لكذوب: أثوم، لاعتدائه بالقول على غيره، والإثم الخمر لما يقع بها من العدواة والعدوى- قاله الحرالي: {والعدوان} أي والامتلاء في مجاوزة الحدود {وإن يأتوكم} أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم {أسارى} جمع أسرى جمع أسير، وأصله المشدود بالأسر، وهو القد وهو ما يقد أي يقطع من السير {تفادوهم} أي تخلصوهم بالمال، من الفداء وهو الفكاك بعوض، و{تفادوهم} من المفاداة وهي الاستواء في العوضين.
قاله الحرالي.
ثم أكد تحريم الإخراج بزيادة الضمير والجملة الاسمية في قوله: {وهو محرم} من التحريم وهو تكرار الحرمة بالكسر وهي المنع من الشيء لدنايته، والحرمة بالضم المنع من الشيء لعلوه- قاله الحرالي: {عليكم} ولما كان يُظن أن الضمير للفداء عينه فقال: {إخراجهم} ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} أي التوراة وهو الموجب للمفاداة {وتكفرون ببعض} وهو المحرم للقتل والإخراج، ثم سبب عن ذلك قوله: {فما جزاء من يفعل ذلك} الأمر العظيم الشناعة {منكم إلا خزي} ضد ما قصدتم بفعلكم من العز، والخزي إظهار القبائح التي يستحي من إظهارها عقوبة- قاله الحرالي: {في الحياة الدنيا} تعجيلاً للعقوبة له في الدار التي جعلها محط قصده. وقد فعل سبحانه ذلك بأنواع الذل والقتل فما دونه، {ويوم القيامة} هي فعالة تفهم فيها التاءُ المبالغةَ والغلبة، وهو قيام أمر مستعظم، والقيام هو الاستقلال بأعباء ثقيلة {يردون} أي بالبعث، والرد هو الرجوع إلى ما كان منه بدء المذهب- قاله الحرالي: {إلى أشد العذاب} لأنه الخزي الأعظم.
ولما كانت المواجهة بالتهديد أدل على الغضب التفت إليهم في قراءة الجماعة فعطف على ما تقديره ذلك بأن الله عالم بما قصدتموه في ذلك فهو يجازيكم بما تستحقون قوله: {وما الله} أي المحيط علماً وقدرة {بغافل عما} أي عن شيء بما {تعملون} من ذلك ومن غيره، وقراءة نافع وابن كثير بالغيب على الأسلوب الماضي.
ولما كانت هذه الآيات كلها كالدليل على قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة- ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} [البقرة: 61] فذلكة ذلك قوله تعالى: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين اشتروا} أي لجوا فأخذوا {الحياة الدنيا} على خساستها {بالآخرة} مع نفاستها، والدنيا فُعلى من الدنو وهو الأنزل رتبة، في مقابلة عليا، ولأنه لزمتها العاجلة صارت في مقابلة الأخرى اللازمة للعلو، ففي الدنيا نزول قدر وتعجل وفي الأخرى علو قدر وتأخر، فتقابلتا على ما يفهم تقابلين من معنى كل واحدة منهما- قاله الحرالي: فالآية من الاحتكاك، ذكر الدنيا أولاً يدل على حذف العليا ثانياً، وذكر الآخرة ثانياً يدل على حذف العاجلة أولاً.
{فلا} أي فتسبب عن ذلك أنه لا {يخفف} من التخفيف وهو مصير الثقيل والمستفل إلى حال الطافي المستعلي كحال ما بين الحجر والهواء- قاله الحرالي: {عنهم العذاب} في واحدة من الدارين {ولا هم ينصرون} وهو أيضاً من أعظم الأدلة على خذلان من غزا لأجل المغنم أو غل، وقد ورد في كثير من الأحاديث والآثار التصريح بذلك، منها ما رواه مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب» وهو أيضاً شرع قديم ففي سفر يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام أنه لما فتح مدينة أريحا بعد موت موسى عليه السلام بعث إلى مدينة عاي ثلاث آلاف مقاتل ليفتحوها، فقتل منهم أهل عاي جماعة وهزموهم، فاضطربت قلوبهم وصارت كالماء، فسجد يشوع على الأرض أمام تابوت الرب هو ومشيخة بني إسرائيل، فقال له الرب: انهض قائماً، وأخبره أن قومه قد غلوا فلا يقدرون الآن أن يثبتوا لأعدائهم حتى ينحوا الحرام عنهم، وقال الله له: وإذا كان غد فقدموا أسباطكم ليقترعوا، والسبط الذي تصيبه قرعة الرب تتقدم عشائره، والعشيرة التي تصيبها القرعة تتقدم بيوتاتها، والبيت الذي يصيبه قرعة الرب ويصاب الحرام عنده يحرق بالنار هو وكل شيء له، لأنه تعدى على أمر الرب ولأنه أثم بإسرائيل؛ ففعل ما أمره الرب فأصابت القرعة عاجار بن كرمى من سبط يهودا، فأحضره وبنيه وبناته ومواشيه وخيمته وكل من كان له، فأصعدهم إلى غور عاجار، ورجمهم جميع بني إسرائيل بالحجارة، وأحرقوهم بالنار، وجعلوا فوقه تلاً من الحجارة الكبار إلى اليوم، ولذلك دعي اسم ذلك الموضع غور عاجار إلى اليوم، ثم أتوا من الغد إلى عاي فقتلوا جميع من فيها من بني آدم الذكور والإناث وأحرقوها.
ولما بين لهم أنهم نقضوا العهود فأحاطت بهم الخطايا فاستحقوا الخلود في النار توقع السائل الإخبار عن سبب وقوعهم في ذلك هل هو جهل أو عناد فبشع سبحانه ذلك عليهم بما افتتحه بحرف التوقع فقال: {ولقد} باللام التي هي توكيد لمضمون الكلام، وقد هي لوقوع مرتقب مما كان خبراً أو مما سيكون علماً- قاله الحرالي. {آتينا} أي بعظمتنا {موسى الكتاب} أي نقضتم تلك العهود مع أن عندكم فيها كتاب الله التوراة تدرسونه كل حين، فلم ندعكم هملاً بعد موسى عليه السلام بل ضبطنا أمركم بالكتاب {وقفينا} من التقفية وهي متابعة شيء شيئاً كأنه يتلو قفاه، وقفاء الصورة منها خلفها المقابل الموجه- قاله الحرالي: {من بعده} أي بعد موسى {بالرسل} أي ثم لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى بل واترنا من بعده إرسال الرسل مواترة، وجعلنا بعضهم في قفاء بعض ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود والرسالة انبعاث أمر من المرسل إلى المرسل إليه {وآتينا} بما لنا من العظمة {عيسى} اسم معرب.
أصله يسوع {ابن مريم} الذي أرسلناه لنسخ بعض التوراة تجديد ما درس من بقيتها {البينات} من الآيات العظيمة التي لا مرية فيها لذي عقل، والبينة من القول والكون ما لا ينازعه منازع لوضوحه- قاله الحرالي: {وأيدناه} أي قويناه على ذلك كله، من التأييد وهو من الأيد وهو القوة، كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي يقويه فيه، كأخذ قوة المظاهرة من الظهر، لأن الظهر موضع قوة الشيء في ذاته، واليد موضع قوة تناوله لغيره- قاله الحرالي: {بروح القدس} أي الروح الطاهر وهو جبريل عليه السلام كما أيدنا به غيره من أولي العزم. قال الحرالي: والروح لمحة من لمحات أمر الله، وأمر الله قيوميته في كلية خلقه ملكاً وملكوتاً، فما هو قوام الخلق كله ملكاً وملكوتاً هو الأمر {ألا له الخلق والأمر}، [الأعراف: 54]، وما هو قوام صورة من جملة الخلق هو الروح الذي هو لمحة من ذلك الأمر؛ ولقيام عالم الملكوت وخصوصاً جملة العرش بعالم الملك وخصوصاً أمر الدين الباقي سماهم الله روحاً، ومن أخصهم روح القدس، والقدس الطهارة العلية التي لا يلحقها تنجس على ما تقدم، ومن أخص الروح به جبريل عليه السلام بما له من روح الأمر الديني، وإسرافيل عليه السلام بما له من روح النفخ الصوري- انتهى. وقد كان لعيسى عليه السلام بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى؛ والمعنى فعلنا بكم يا بني إسرائيل ذلك ولم تزالوا في عهد جميع من ذكر ناقضين للعهود، فلا أحد أحق منكم بالخلود في النار، ثم جاء محمد صلى الله عليه وسلم فلم تصدقوه.
ذكر شيء من الإنجيل يدل على أنه عليه السلام أتى بالبينات مع تأييده بروح القدس مستخلصاً من الأناجيل الأربعة وقد جمعت بين ألفاظها، قال متى- ومعظم السياق له: فلما سمع يسوع أن يوحنا- يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام- قد أسلم- يعني خذله أصحابه مضى إلى الجليل وترك الناصرة وجاء وسكن كَفَرناحوم التي على ساحل البحر في تخوم زابلون وبغتاليم ليكمل ما قيل في أشعيا النبي إذ يقول: أرض زابلون أرض بغتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً الجلوس في الكورة وظلال الموت نوراً أشرق عليهم، ومن ذلك بعد حبس يوحنا وافى يسوع إلى الجليل يكرز بإنجيل ملكوت الله قائلاً: قد كمل الزمان وقربت ملكوت الله! فتوبوا وآمنوا بالإنجيل. قال متى: وكان يمشي على بحر الجليل فأبصر أخوين سمعان الذي يدعى بطرس واندراوس أخاه يلقيان شباكهما في البحر لأنهما كانا صيادين، فقال لهما: اتبعاني أجعلكما تكونان صيادي الناس وللوقت تركا شباكهما وتبعاه؛ وجاز من هناك فرأى أخوين آخرين يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في سفينة مع أبيهما زبدي يصلحون شباكهم فدعاهما، فللوقت تركا السفينة وأباهما زبدي وتبعاه وفي إنجيل يوحنا بعد قصة يحيى بن زكريا الآتية في آل عمران: هذا كان في بيت عينا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد، ومن الغد نظر يسوع مقبلاً إليه فقال: هذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم! هذا ذلك الذي قلت من أجله: إنه يأتي وهو كان قبلي لأنه أقدم مني وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل، من أجل هذا جئت أنا لأعمد بالماء؛ وشهد يوحنا وقال: إني رأيت الروح نزل من السماء مثل حمامة وحل عليه ولم أعرفه، لكن من أرسلني لأعمد بالماء هو الذي قال: الذي ترى الروح ينزل ويثبت عليه هو يعمد بروح القدس.
وأنا عاينت وشهدت: وفي الغد كان يوحنا واقفاً واثنان من تلاميذه فنظر يسوع فقال: هذا حمل الله! فسمع تلميذاه كلامه فتبعا يسوع، فالتفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما: ماذا تريدان؟ قالا له: ربي- الذي تأويله يا معلم- أين تكون؟ فقال لهما: تعاليا لتنظرا، فأتيا وأبصرا موضعه أين يكون، وأقاما عنده يومهما ذلك وكان نحو عشر ساعات، وإن واحداً من اللذين سمعا من يوحنا وتبعا يسوع كان اندراوس أخا سمعان وإنه أبصر أولاً سمعان أخاه وقال له: قد وجدنا مسياً- الذي تأويله المسيح- فجاء به إلى يسوع؛ فلما نظر إليه يسوع قال له: أنت سمعان بن يونان الذي يدعى الصفا- الذي تأويله بطرس ومن الغد أراد الخروج إلى الجليل فلقي فيليس ناتاناييل وقاله له: الذي كتب موسى من أجله في الناموس والأنبياء وجدناه وهو يسوع الذي من الناصرة، فقال له: ناتاناييل هل يمكن أن يخرج من الناصرة شيء فيه صلاح؟ فقال له فيليس: تعال وانظر، فلما رأى يسوع ناتاناييل مقبلاً إليه قال: من أجله هذا حقاً إسرائيلي لا غش فيه، فقال له ناتاناييل: من أين تعرفني؟ فقال له يسوع: قبل أن يدعوك فيليس وأنت تحت التينة رأيتك فقال له: يا معلم! أنت هو ملك إسرائيل، قال له يسوع: لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة آمنت سوف تعاين ما هو أعظم من هذا، وقال له: الحق الحق أقول لكم، إنكم من الآن ترون السماء مفتحة وملائكة الله ينزلون ويصعدون على ابن البشر. وفي اليوم الثالث كان عرش في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودُعي يسوع وتلاميذه إلى العرش وكان الخمر قد فرغ، فقالت أم يسوع له: ليس لهم خمر، فقال لها يسوع: ما لي ولك أيتها المرأة لم تأت ساعتي بعد؟ فقالت أمه للخدام: افعلوا ما يأمركم به، وكان هناك ستة أجاجين من حجارة موضوعة لتطهير اليهود تسع كل واحدة مطرين أو ثلاثة، فقال لهم يسوع: املؤوا الأجاجين ماء، فملؤوها إلى فوق، وقال لهم: اغرفوا الآن وناولوا رئيس السقاة، فلما ذاق رئيس السقاة ذلك الماء المتحول خمراً لم يعلم من أين هو، فدعا رئيس السقاة العريس وقال له: كل إنسان إنما يأتي بالشراب الجيد أولاً فإذا سكروا عند ذلك يأتي بالدون وأنت أبقيت الجيد إلى الآن! هذه الآية الأولى التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده وآمن به تلاميذه.
وبعد هذا انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه فأقاموا هناك أياماً يسيرة؛ ثم قال: وعلم السيد يسوع أن الفريسيين سمعوا أنه قد اتخذ تلاميذ كثيرة وأنه يعمد أكثر من يوحنا إذ ليس هو يعمد بل تلاميذه فترك اليهودية ومضى إلى الجليل وكان قد أزمع أن يعبر على موضع السامرة، فأقبل إلى مدينة السامرة التي تسمى بسوخار إلى جانب القرية التي كان يعقوب وهبها ليوسف ابنه وكان هناك بئر يعقوب وكان يسوع قد عيى من تعب الطريق، فجلس على البئر في ست ساعات، فجاءت امرأة من السامرة تستقي ماء، فقال لها يسوع أعطيني أشرب- وكان تلاميذه قد دخلوا إلى المدينة ليبتاعوا لهم طعاماً- فقالت له تلك المرأة: كيف وأنت يهودي تستقي الماء وأنا امرأة سامرية واليهود لا يختلطون بالسامرة! أجاب يسوع وقال لها: لو كنت تعرفين عطية الله ومن هذا الذي قال لك: ناوليني أشرب، لكنت أنت تسألينه أن يعطيك ماء الحياة! قالت المرأة: يا سيد! إنه لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك ماء الحياة؛ لعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر ومنها شرب هو وبنوه وماشيته! فقال لها: كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، فأما من يشرب من الماء الذي أعطيه لا يعطش إلى الأبد، قالت المرأة: يا سيد! أعطني من هذا الماء لئلا أعطش ولا أجيء ولا أستقي من ههنا، فقال: انطلقي وادعي زوجك وتعالي إلى هاهنا، قالت: ليس لي زوج، قال لها: حسناً قلت: إنه لا بعل لي، لأنه قد كان لك خمسة بعولة والذي هو لك الآن ليس هو زوجك، أما هذا فحقاً قلت، قالت: يا سيد! إني أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون: إنه ياروشليم المكان الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال: أيتها المرأة! آمني به، إنه ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في يروشليم يسجدون للأب، أنتم تسجدون لما لا تعلمون ونحن نسجد لما نعلم، لكن ستأتي ساعة وهي الآن لكيما الساجدون المحقون يسجدون بالروح والحق، والرب إنما يريد مثل هؤلاء الساجدين، والذين يسجدون له بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا، قالت المرأة: قد علمت أن مَسيا الذي هو المسيح يأتي، فإذا جاء ذاك فهو يعلمنا كل شيء، فقال: أنا هو الذي أكلمك وفي هذا جاء تلاميذه وتعجبوا من كلامه مع امرأة ولم يقل أحد: ماذا تريد ولم تكلمها فتركت المرأة جرّتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس: تعالوا انظروا رجلاً أعلمني كل ما فعلت، لعل هذا هو المسيح، فخرجوا من المدينة وأقبلوا نحوه؛ وفي هذا سأله تلاميذه قائلين: يا معلم! كل، فقال: إن لي طعاماً لا تعرفونه أنتم، فقالوا فيما بينهم: لعل إنساناً وافاه بشيء فطعمه، فقال: طعامي أنا أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله أليس أنتم تقولون: إن الحصاد يأتي بعد أربعة أشهر، وأنا قائل لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا إلى الكور قد ابيضت وبلغت الحصاد، والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثمار الحياة الدائمة، والزارع والحاصد يفرحان معاً، لأنه في هذا توجد كلمة الحق، إن واحداً يزرع وآخر يحصد، أنا أسألكم تحصدون شيئاً ليس أنتم تعبتم فيه بل آخرون تعبوا فيه وأنتم دخلتم على تعب أولئك؛ فآمن به في تلك المدينة سامريون كثيرون من أجل كلمة تلك المرأة، ولما صار إليه السامريون طلبوا إليه أن يقيم عندهم، فمكث عندهم يومين فآمن به كثير، وكانوا يقولون للمرأة: لسنا من أجل قولك نؤمن به لكنا قد سمعنا وعلمنا أن هذا هو المسيح بالحقيقة مخلص العالم.
وبعد يومين خرج يسوع إلى الجليل ومضى من هناك، لأنه شهد أن النبي لا يكرم في مدينته، ولما صار إلى الجليل قبله الجليليون، لأنهم عاينوا كل ما عمل بايروشليم في العيد؛ ثم جاء يسوع حيث صنع الماء خمراً وكان في كفرناحوم عند الملك ابن مريض فسمع أن يسوع قد جاء من يهودا إلى الجليل، فمضى إليه وسأله أن ينزل ويبرئ ولده، لأنه قد كان قارب الموت، فقال له يسوع: إن لم تعاينوا الآيات الأعاجيب لا تؤمنون، فقال له الملك: انزل يا سيد قبل أن يموت فتاي، قال له يسوع: امض فابنك حي، فآمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع ومضى، وفيما هو ماض استقبله علمانه وبشروه بأن ابنه قد عاش، فسألهم: في أي وقت؟ فقالوا له: أمس في الساعة السابعة تركته الحمى، فعلم أبوه أنه في تلك الساعة التي قال له يسوع فيها: إن ابنك قد حيي، فآمن هو وبيته بأسره؛ وهذه أيضاً آية ثانية عملها يسوع لما جاء من يهودا إلى الجليل. قال مرقس: فأقبل إلى كفرناحوم وبقي يعلم في مجامعهم يوم السبت، فتعجبوا من تعليمه لأنه كان كالمسلط. قال متى: وكان يسوع يطوف في كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويبرئ كل برص ووجع في الشعب، فخرج خبره في جميع الشام فقدم إليه كل من به أصناف الأمراض والأوجاع المختلفة والذين بهم الشياطين والمعترين في رؤوس الأهلة والمخلعين فأبرأهم، وتبعه جموع كثيرة من الجليل والعشرة المدن ويروشليم واليهودية وعبر الأردن، فلما أبصر الجميع صعد إلى الجبل وجلس، وجاء إليه تلاميذه وفتح فاه يعلمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح! فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى! فإنهم يعزون، طوبى للمتواضعين! فإنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش من أجل البر! فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء! فإنهم يرحمون، طوبى للنقية قلوبهم! فإنهم يعاينون الله، طوبى لفاعلي السلامة! فإنهم بني الله يُدعون، طوبى للمطرودين من أجل البر! فإن لهم ملكوت السماوات طوبى لكم إذا طردوكم وعَيَّروكم وقالوا فيكم كل كلمة شر من أجلي؛ افرحوا وتهللوا، فإن أجركم عظيم في السماوات، لأن هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم.
وقال لوقا: هكذا كان آباؤكم يصنعون بالأنبياء الويل لكم أيها الأغنياء! لأنكم قد أخذتم عزاكم، الويل لكم أيها الشباعى الآن! فإنكم ستجوعون؛ الويل لكم أيها الضاحكون الآن! فإنكم ستبكون وتحزنون، الويل لكم إذا قال الناس فيكم قولاً حسناً! لأن آباءهم كذلك فعلوا بالأنبياء الكذبة- يعني المتنبئين- وفيه من الألفاظ التي لا يجوز إطلاقها في شرعنا حمل الله والأب، وقوله: بني الله، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آل عمران تأويل مثل هذا على تقدير صحته عنه وأنه يرد إلى المحكم على أوضح وجه مثل الألفاظ التي وردت في شرعنا ورددناها إلى المحكم، وضل بها من حملها على ظاهرها ممن يدعي الإسلام والله الموفق.
ولما كان هذا حالهم مع الرسل مع أنسهم بهم ومعرفتهم بأحوالهم واتصالهم بالله وكمالهم علم أنهم في منابذتهم لهم عبيد الهوى وأسرى الشهوات، فتسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال: {أفكلما} أي أفعلتم ما فعلتم من نقض العهود مع مواترة الرسل ووجود الكتاب فكلما {جاءكم رسول} أي من عند الله ربكم {بما لا تهوى أنفسكم} من الهوى وهو نزوع النفس لسفل شهوتها في مقابلة معتلى الروح لمنبعث انبساطه، كأن النفس ثقيل الباطن بمنزلة الماء والتراب، والروح خفيف الباطن بمنزلة الهواء والنار، وكأن العقل متسع الباطن بمنزلة اتساع النور في كلية الكون علواً وسفلاً- قاله الحرالي: وقد دل على أن المراد الباطل بالتعبير بالهوى والنفس {استكبرتم} أي طلبتم الكبر وأوجدتموه بما لكم من الرئاسة على قومكم عن قبول الحق ميلاً إلى سنة إبليس مع إعطائكم العهد قبل ذلك على الدوام على اتباعه {ففريقاً} أي فتسبب عن طلبكم الكبر أنكم فريقاً {كذبتم} كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام {وفريقاً تقتلون} أي قتلتم ولم تندموا على قتلهم بل عزمتم على مثل ذلك الفعل كلما جاءكم أحد منهم بما يخالف الهوى وهم لم يبعثوا إلا لصرف الأنفس عن الهوى لأن دعوة الرسول إلى الأعلى الذي هو ضد هوى النفس؛ والظاهر أنه سبحانه أشار بهذه الصيغة المستقبلة إلى قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسم في خيبر كما أشار إليه الحديث الماضي آنفاً.


ولما بين سبحانه مخازيهم حتى ختمها بعظيم ما ارتكبوا من الرسل من القتل المعنوي بالتكذيب والحسي بإزهاق الروح مع العلم بأنهم أتوا بالبينات والآيات المعجزات فأرشد المقام إلى أن التقدير فقالوا للأنبياء لما أتوهم أموراً كثيرة يعجب من صدورها عن عاقل وأتوا في الجواب عن تكذيبهم وقتلهم من التناقضات بما لا يرضاه عالم ولا جاهل عطف عليه أو على {وقالوا لن تمسّنا النار} [البقرة: 80] قوله- بياناً لشدة بهتهم وقوة عنادهم: {وقالوا} في جواب ما كانوا يلقون إليهم من جواهر العلم التي هي أوضح من الشمس {قلوبنا غلف} جمع أغلف وهو المغشى الذكر بالقلفة التي هي جلدته، كأن الغلفة في طرفي المرء: ذكره وقلبه، حتى يتم الله كلمته في طرفيه بالختان والإيمان- قاله الحرالي. فالمعنى: علهيا أغطية فهي لا تفهم ما تقولون. فكان المراد بذلك مع أنهم أعلم الناس أن ما يقولونه ليس بأهل لأن يوجه إليه الفهم، ولذلك أضرب الله سبحانه عنه بقوله: {بل} أي ليس الأمر كما قالوا من أن هناك غلفاً حقيقة بل {لعنهم الله} أي طردهم الملك الأعظم عن قبول ذلك لأنهم ليسوا بأهل للسعادة بعد أن خلقهم على الفطرة الأولى القويمة لا غلف على قلوبهم، لأن اللعن إبعاد في المعنى والمكانة إلى أن يصير الملعون بمنزلة النعل في أسفل القامة يلاقي به ضرر الموطي- قاله الحرالي.
ثم بين علة ذلك بقوله: {بكفرهم}. قال الحرالي: أعظم الذنوب ما تكون عقوبة الله تعالى عليها الإلزام بذنوب أشد منها، فأعقب استكبارهم اللعن كما كان في حق إبليس مع آدم عليه السلام، فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن والإنس الذي انختم به القرآن في قوله: {من الجنة والناس} [الناس: 6] ليتصل طرفاه، فيكون ختماً لا أول له ولا آخر، والفاتحة محيطة به لا يقال: هي أوله ولا آخره، ولذلك ختم بعض القراء بوصله حتى لا يتبين له طرف، كما قالت العربية لما سئلت عن بنيها: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. ولما أخبر بلعنهم سبب عنه قوله: {فقليلاً ما يؤمنون}، فوصفه بالقلة وأكده بما إيذاناً بأنه مغمور بالكفر لا غناء له.
ولما ذكر سبحانه من جلافتهم ما ختمه بلعنهم وكان قد قدم ذكر كتابهم مراراً وأشار إلى الإنجيل بإيتاء عيسى عليه السلام البينات ذكر سبحانه كفرهم بهذا الكتاب الذي مقصود السورة وصفه بالهدى وبهذا الرسول الآتي به دليلاً على إغراقهم في الكفر، لأنهم مع استفتاحهم به صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه على من يعاديهم واستبشارهم به وإشهادهم أنفسهم بالسرور بمجيئه كانوا أبعد الناس من دعوته تمادياً في الكفر وتقيداً بالضلال، فكان هذا الدليل أبين من الأول عند أهل ذلك العصر وذلك قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب} أي جامع لجميع الهدى لعظمته لكونه {من عند الله} الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من المحببات لهم في اتباعه قوله: {مصدقاً لما معهم} على لسان نبي يعرفون صحة أمره بأمور يشهد بها كتابهم، وبتصديق هذا الكتاب له بإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم، والجواب محذوف ودل ما بعد على أنه كفروا به، وفي ذلك قاصمة لهم لأن كتابهم يكون شاهداً على كفرهم، ولما بين شهادة كتابهم أتبعه شهادتهم لئلا يحرفوا معنى ذلك فقال {وكانوا} أي والحال أنهم كانوا، ولما كان استفتاحهم في بعض الزمان أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل مجيئه {يستفتحون} أي يسألون الله الفتح بالاسم الآتي به تيمناً بذكره!! {على الذين كفروا} يعني أنهم لم يكونوا في غفله عنه بل كانوا أعلم الناس به وقد وطنوا أنفسهم على تصديقه ومع ذلك كله {فلما جاءهم} برسالة محمد صلى الله عليه وسلم علم {ما عرفوا} أي ما صدقه بما ذكر من نعوته في كتابهم {كفروا به} اعتلالاً بأنواع من العلل البينة الكذب، منها زعمهم أن جبريل عليه السلام عدوهم وهو الآتي به؛ قال الثعلبي والواحدي: روى ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الله بن صوريا حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فلما اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتيك من السماء؟ قال: جبريل، ولم يبعث الله نبياً إلا وهو وليه- وفي رواية: وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: جبريل- فقال: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك، وقال ابن إسحاق في السيرة: حدثني عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري أن نفراً من أحبار يهود جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: خبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني، قالوا: نعم، قال: فاسألوا عما بدا لكم! قالوا: فأخبرنا: كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان الشبه لها؟ قالوا: اللهم نعم، قالوا: فأخبرنا عن كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه، قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكراً لله فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم؛ قالوا: فأخبرنا عن الروح، قال: أنشدكم بالله وبأيامه هل تعلمون جبريل وهو الذي يأتيني؟ قالوا: اللهم نعم ولكنه يا محمد لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8